يقول: (فمن قال: هما سواء) يعني: بعد هذه الآية، وبعد هذا الحديث -وهم أنتم أيها
المرجئة - كان مخالفاً للكتاب والسنة، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة عظيمة، فنحن وأنتم قد اختلفنا في هذه المسألة؛ فالواجب أن نرد هذا إلى الله ورسوله، فإذا رددنا إلى كتاب الله فهذه الآية، وإذا رددنا إلى السنة فهذا الحديث، إذاً نحن يجب علينا وعليكم أن نرد الأمر إلى الله ورسوله، وأن نقول جميعاً: إنهما متغايران، كما أمر الله تبارك وتعالى: ((
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ))[الشورى:10] وأيضاً قوله تعالى: ((
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ))[النساء:59].والله تبارك وتعالى لم يقل لا تختلفوا قط، أو: لا يجوز أن تتنازعوا قط، أي: في هذه المواضع وهي مواضع الاجتهاد، وأما ما نهانا الله تبارك وتعالى عنه من مواضع الاختلاف: ((
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ))[آل عمران:105]، وقوله: ((
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ))[الأنعام:159] وما أشبه ذلك فالمقصود به أصل الدين، والمقصود: اتباع السنة أو البدعة، فهنا لا يجوز أن نختلف، فيجب علينا جميعاً أن نعتصم بحبل الله، وهو دينه، وهو كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا نتفرق ولا نختلف في ذلك. وأما الموضع الآخر الذي يجوز الاختلاف فيه فهو: الاجتهاد الذي تتفاوت العقول في فهمه، وكل منا يرى أنه أولى بالحق وبما جاء عن الله ورسوله من غيره، فهنا في مواضع الاجتهاد نرجع الأمر إلى الكتاب والسنة؛ ففيهما الجواب إما نصاً واضحاً جلياً، وإما ظاهراً يفهمه من تأمله، وإما فحوىً أو إشارة يدركها من وفقه الله تبارك وتعالى لإدراكها، وكان أسعد بأن يتنبه لها، وفي هذا يتفاوت الخلق، والله تبارك وتعالى يرفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، وفوق كل ذي علم عليم، فقد يجتهد البعض فيصل إلى الحق في مسائل، وغيره لا يصد إليها، وإنما يصل إلى الحق في مسائل ومواضع أخرى، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وكلاهما بين الأجر والأجرين مادام كل منهما يريد الحق، ويريد موافقة الكتاب والسنة.وكذلك يجب رد كل منهج أو قاعدة أو أصل؛ سواء كان في أصول الفقه، أو كان في أصول بعض الأئمة، أو كان مما قد يجعل قاعدة من القواعد الفقهية وهي غير قاعدة؛ مما لم يرد في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز إقرار هذه الأصول أو هذه القواعد. فمثلاً تقول الحنفية: إن الزيادة على القرآن نسخ له، وعلى هذا يقولون: إننا لا نعمل بما جاء في الحديث من تغريب الزاني؛ لأن الذي جاء في القرآن هو الجلد: ((
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ))[النور:2]، فلماذا تضيفون أنتم إليه التغريب؟! قلنا: قد جاء في الحديث الصحيح الذي لا شك في صحته: (
جلد مائة، وتغريب عام )، قالوا: لا، الزيادة على القرآن نسخ، والقرآن لا ينسخ بالسنة، وهذه القاعدة أيضاً فيها نظر، وهي أيضاً محل نقاش، فهذا الذي قالوه خطأ؛ وإن كان صاحبه يظن أنه قد أخذ هذه القاعدة من القرآن ومن السنة، فنقول: لا، ((
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ))[الشورى:10]، وبرد النزاع إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر التغريب، وصح ذلك عنه، إذاً فيجب العمل به، وقس على ذلك أموراً كثيرة في الصلاة والزكاة وغيرها عند بعض المذاهب. قال الشارح: (وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة) وهذا كثيراً ما يقع؛ ولا سيما لطلبة العلم في أول مراحل الطلب، فيلتبس عليهم الجمع والتوفيق بين النصوص، لكن هذه المعارضة ليست حقيقية، وإنما هي فقط في فكر وذهن ذلك الناظر، فلا يمكن أن يتعارض شيء من دين الله تبارك وتعالى، ولا يتناقض، ((
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ))[النساء:82]. وإنما يقع التعارض بين النصوص -وهذا لم يذكره الشارح هنا؛ لأنه ليس من غرضه ومراده، وهو كثيراً ما يقع- إما بسبب أن أحد الدليلين غير صحيح، فمن أتى بحديث ضعيف أو موضوع وقال كيف نجمع بينه وبين حديث صحيح؟ قلنا له: هذا لم يصح، والذي يصح لا يعارض به ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً لا تعارض في هذه الحالة، لكن المبتدئ باعتبار أنه لا يميز بين هذا وذاك ظهر له التعارض، وعيي في جوابه وحل إشكاله في نظره. فإذا كان كلا الدليلين صحيحاً ولكن تعارضا؛ فننظر فيهما، ونقول كما قال الشارح: لا تعارض مطلقاً في الحقيقة والواقع، ولكن الشأن في التوفيق بين الأدلة، فمن تسرع وقال: نرد هذا الحديث ولا نعمل إلا بهذه الآية؛ لأن هذا ظاهر القرآن وغيرها ليس كذلك مثلاً؛ فنقول له: لماذا ترده؟ ولماذا لا تجمع؟ فلا يجوز رد أحد الدليلين الثابتين -والآية لا شك في ثبوتها- إلا إذا عجزت عن الجمع بينهما، والجمع بين الأدلة من صفات الراسخين في العلم؛ الذين يعلمون دلالة كل نص، وعلى أي شيء يدل، وكيف يمكن أن يستدل به من دون معارضة للآخر، فليس كل أحد يحسن هذا.